خديجة بوشخار.
خلال مناقشة أطروحة دكتوراه لأحد الطلبة الذين جعلوا من الفقر والحاجة أرضية لزرع طموحاتهم وحرثها بعزيمتهم واصرارهم على الوصول وسقيها بقطرات عرق معاناتهم سواء مع الركوض خلف حلم طلب العلم والمعرفة ومايصاحبه من شقاء ومتاعب الدراسة من ادوات وكتب وتنقل ولباس واحتياجات أخرى قد تبدو للشخص العادي رمزية لكنها بالنسبة لأمثال هذا الطالب تفوق القدرة الاستيعابية وتسحبه نحو الحلم بتحقيق الأمل والانتصار على المستحيل. او على مستوى المنافسة داخل المجال الجامعي والعلوم على وضع القدم بين باقي الأقدام والوقوف بصمود ورفع هامة الشرف والكرامة التي تجعل من الفقير أميرا يزهو وسط فضاء جامعي بتاج مرصع بالنجاح و التفوق رغم مرارة طعم طريق الوصول .
كانت مناقشة أطروحة دكتوراه هذا الطالب محطة إنسانية اكثر منها علمية ،لا لشيء إلا لكون هذا الطالب خلال تقديمه لعبارات الشكر والامتنان وهو يقدم أطروحته ،جلس القرفصاء في شكره الوجداني الصادق عندما كشف عن امتنانه للأستاذ المشرف عن الأطروحة قائلا “:اشكر استاذي ليس فقط لانه وجهني أكاديميا ،بل لانه كان أحيانا كثيرة يدعمني ماديا ليسهل علي عملية التنقل …”
اعتراف عميق جذب معه احاسيس إنسانية مختلفة مافتأت تترجم على محيا كل فرد من الحاضرين حتى تبعتها دموع تعاطف بل تقدير للكرامة الانسانية عندما أضاف الطالب قائلا “:لقد باعت أمي ذات يوم الدجاجة الوحيدة التي كنا نربيها داخل البيت لتعطيني ثمن تنقلي الى الكلية…” هنا توقف الزمن لحظة ،واشتعلت الانفاس حرارة ،وترادفت الدموع تأثرا،..انه اعتراف بان النجاح ممكن ان يولد من لاشيء لكن الاستمرار والاصرار وتحويل مرارة الألم الى وسام الصمود هو اساس البقاء ووسيلة للوصول إلى العلياء.
لقد صدق محمود درويش عندما قال :”على هذه الأرض مايستحق الحياة…وعلى هذه الدموع مايستحق منا الإنحناء”
لقد انحنى البروتوكول العلمي والثقافي والوجودي أمام تواضع هذا الطالب الذي جعله يكشف عن أصل وصوله إلى النجاح رغم مرارة هذا الاعتراف وشدة ألمه…..لقد اعطى الطالب حقيقة مفادها أن المناسبة لم تكن لمنح شهادة أكاديمية علمية فقط ،بل إعطاء شهادة إنسانية أخلاقية للجميع ،ليكون العلم عبارة ان شكل من أشكال الوجود الحقيقي وليس فقط مجرد انتاج للمعرفة ،العلم الذي جعل من الأم المضحية قنديل إضاءة درب هذا الطالب والاستاذ الذي يعتبر في مضمون مهنته هو المربي الأخلاقي اولا ،انه هنا المربي الذي يحرر اكثر مما يلقن لانه ساعد الطالب ليس فقط على تعليمه كيف” نعرف” بل تعليمه كيف” نكون “.
هذه مرآة جسدت لنا صورة طالب ينتمي الى اولائك الذين يصعدون من الهامش بشرف،حاملين الحلم والكرامة بين يديهما….هم اولائك المثقفون الذين يصنعون شرعيتهم بصمت وتأمل وشقاء.